أيها العزيز.. رسالة أخرى، ولا شئ آخر...
مرحباً يا عزيزي،
أكتب لك اليوم بعد توقف عن الكتابة لأجلك دام لثلاثة عشر أشهر وتسعة أيام بالتمام والكمال. لا أدري لماذا أكتب لك، هل هو حنين من نوعٍ ما، أم أنه الفراغ الذي حاق بقلبي طيلة الأشهر – أو السنوات- المنصرمة، أم أنها الضوضاء من حولي، لا أدري...
في الحقيقة...
لا، لن أتحدث عن الحقيقة، أنا في الأساس لم أعد أثق بأي حقيقة،ولا أؤمن بأي شئ... صدقني، لم أعد أتذكر، متى كانت آخر حقيقة مرت على قلبي، ولا أدري متى تحولت حياتي إلى حزمة من الأكاذيب!!!
في الواقع....
لا أيضاً، لن أتحدث عن الواقع، فأنا أكرهه بشدة، ولا أريد إدراكه. أتهرب منه بكل ما أوتيت من كل خصالي القبيحة!!!
دعنا من ذلك...
إنني أريد أن أتحدث معك عن السقوط الحر، هل تدري ما هو السقوط الحر؟ هل جربته من قبل؟!! دعني أحدثك أنا عنه..
السقوط الحر هو أن تسقط بسرعة ثابتة متأثراً –فقط- بعجلة الجاذبية، غير معتبر لأي قوى أخرى أو مؤثر خارجي..
وهذا ما حدث لي بالفعل...
منذ أن سقطتُ من قلبك وأنا أواصل السقوط. عندما وجدتُ نفسي بعدها على قارعة الطريق ظننتني نجوت، لكن الطريق كان منحدراً بشدة، يقود في نهايته إلى حافة وهاوية، لأسقط بشكل مستمر ولا نهائي...
لا أدري لماذا ألقي بكل هذا اللوم عليك، لا أدري حتى لماذا قد أعاتبك!
أعلم بأنه لستَ أنتَ المعني، لكنني في الوقت ذاته لا أعلم من المعني، لديّ خصومة لكن لا أدري مع من، ولا أعلم غيرك لأعلق عليه خيبتي وخذلاني.. وأنا – كعهدك بي- لا أجيد البوح، ولا أحب تبادل الاتهامات، وأؤثر الصمت دوماً...
ونحنُ حين نفقد نتألم، وقد نقاوم، وندافع عن وجودنا بغريزة البقاء. ولكن حين يستمر الفقد، ويستحيل لعادة، نستسلم في النهاية، ونحزن في صمت، ويصبح الصمت أطول، وأعمق، وأكثر وجعاً.
وأنا منذُ فقدتك، فقدتُ الوجود، واعتدتُ الفقدان، ومن ثمَ الوجع، والصمت.. حتى الكتابة، اعتزلتُها، وكيف لي أن أدوِّن واقع لا أحتمل مجرد التفكير فيه!! ما المنطق في توثيق ما أتمنى أن يكون محض كابوس وينجلي!!!
لقد تغيرت حواسي على نحوٍ غريب، لم تعد تثيرني ذات الأصوات والروائح والمشاهد. لم أعد أضحك كلما أمطرت السماء، ولم تعد رائحة عطرك تدغدغ أنفي إذا ما شممتها، بالكاد أتذكر أنها كانت لك. حتى ذاكرتي أصبحت ضحلة بشكلٍ فريد. لم أعد أتذكر الأماكن التي لم تكُن لتفارق مخيلتي، كلُ شئٍ بات باهتاً ومشوشاً، كأنه ماضٍ بعيدٍ لشخصٍ غيري، أو لنسخةٍ مني في حياةٍ أخرى قد مضتْ. لم يعد لديّ سوى الوجع والصمت، حتى شروخ روحي بات من المستحيل عليّ أن أحصيها...
هل حدثتُكَ عن جرح المقربين؟!
هل تذكر عندما أحسنتُ الظن بك في اللحظةِ الأخيرة؟ هل تذكر الخذلان الذي تلى تلكَ اللحظة؟
الجميع فعل ذلك!!!
لا أعلم تحديداً متى وأين بدأت المأساة، وربما في ذلك مأساةٍ أخرى.
أتذكر أن يديّ البكر كانت تبقى لعدةِ أيامٍ محتفظة برائحة يديك، وملمس شفتيك على ظاهرها.. كم كنتُ مميزة! اليوم، وقد اختلطت كل الروائح في أنفي وجسدي وروحي، المتهالكين، لم أعد أرى ما يميزني.
تتداخلُ جميع الذكريات، فتشوشني. وكذلك أنا، أصبحتُ مجرد عدد في ذاكرة أحدهم، أو عدد منهم... يا للسخرية!!! ما معنى أن تختلط الذكريات فلا تعرف تلك الجملة كانت لمن، وهذه الضحكة لمن!!!
يفعلون معي هكذا، وكذلك أصبحتُ أفعل...
أنا لم أعد أنا، لم يعد بداخلي شئ يعرفني، عبثاً أحاول تذكُر ملامحي الأولى، ابتسامتي الأولى، وضحكتي الأولى، وكذلك برائتي.. عبثاً أحاول تذكُر بياض قلبي الأول.. أصبحتُ مسخاً يحمل كل الصفات الخسيسة في كل من قابلتهم، أعلم أنه من الغباء أن أشوه جمالاً بداخلي لأبدو أكثر قبحاً وواقعية منهم، لكن الحقيقة أنني عبثاً أحاول أن أتذكر ماذا كنتُ... شئٌ في ذاكرتي البعيدة يخبرني عن جمالٍ قديمٍ كان لي، لكنني حقاً لم أعد أتذكره، كل ما أذكره أنه كان معك، في تلك الحقبة –المطرودة من الفردوس- من ذاكرة الزمان، وذلك يثيرُ بقلبي الحنين...
الحنين!!!
مصابة أنا بداءِ الحنين، وهو داءٌ عُضال..
الحنين كالعثة، يزحف إلى الروح حين غفلة، يأكلها ببطء، وبطريقة لا تدع مجالاً لأي إصلاحٍ أو تعديل، يصنع بالروح ثقوباً لا علاج لها...
وبسبب هذه الثقوب أكتب إليك الآن، لا لأشكو، أو لأحكي عما ألمّ بي، بل لأتأكد فقط من أنك ما زلت عالقاً في تلك الزاوية البعيدة من روحي، ولم تسقط سهواً من أحد هذه الثقوب...
وسلام وصلاة من روحي المتآكلة إلى روحك التي كنتُ أعرف أسرارها...
لست كاتبة، لا صحافية ولا روائية ولا حتي من المفكرين. ولكن، وربما لأنني أحب الثرثرة ولا أجيد البوح، صاحبتُ القلم.
الخميس، 16 فبراير 2017
رسالة أخري-السقوط
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق