الأربعاء، 18 يوليو 2012

وردة وفراشة وزقزقة عصفورة

الدنيا كانت زحمة أوي في دماغي في اليوم دة ... زحمة لدرجة إن أفكاري مش عارفة تتنفس , وبتتخانق مع بعضها علشان شوية هوا , زحمة لدرجة إن الأفكار كانت بتقع من دماغي كل ما أهزها ...

قررت في اليوم دة إني أروقها وأنضفها من كل اللي جواها وأغسلها كدة وأظبطها , مش هي بس في الحقيقة لكن كل حاجة فيا كانت محتاجة تتغير , دماغي وقلبي وروحي .. وأهم حاجة روحي علشان كانت تعبانة أوي ..


أنا كنت زمان بتخيل إن النيل دة فنجان شاي كبير وسخن أوي , وكنت كل ما بقف علي كوبري قصر النيل أتخيل نفسي حتة سكر قررت الانتحار , وإني هنط في فنجان الشاي , بس كانت مشكلتي في مين اللي هيقلب الفنجان ... الهوا؟ المراكب ؟ وللا حرارة الشاي مع الشمس هيقدروا يدوبوني؟ لكن كنت متأكدة إن إن إرادتي ورغبتي فر إني أدوب وأتلاشي هتكون كافية جدا إنها تدوبني حتي في أكتر يوم برد وماشافش الشمس ...


حسيت في اليوم دة إني ماليش دوا غير النيل والشمس والكورنيش .. النيل هو اللي هيعرف يغسل قلبي ويشيل كل التراب , والشمس هتعرف تنشفني وتدفيني زي عادتها , والمشي ع الكورنيش كافي أوي إن يطهر ويكوي كل جروحي ...

قررت بكل سعادة إن اليوم دة إيجابي من أول لحظة لآخر لحظة ... نزلت م البيت .. صبحت ع الشمس وهي كمان صبحت عليا وباستني .. قلتلها شكرا علي كل الدفا اللي اديتيهولنا الشتا دة وكل شتا .. وقفتي جنبي كتير وكنتي دايما بتدفيني لما بكون بردانة من جوة مش من برة ...

قلت دعاء الخروج , ومارست هوايتي في تأمل السما الصبح بدري , ومداعبة الكائنات الحية الحقيقية – زي القطط والكلاب والحمام والغربان –  والكائنات الخرافية -  اللي مش موجودين غير في خيالي -  اللي ياما ضحكوني وضحكوا الناس عليا ... ركبت الأتوبيس , وطول الطريق بسمع أغنيات حلوة أوي كانت وحشاني .. كلمت صحابي في التليفون وبعدها قعدت قريت في كتاب لرحاب بسام ...


مشيت زي ما كنت متعودة أمشي زمان , من الاسعاف للكورنيش .. مشيت من التحرير لكورنيش المعادي , ورجعت تاني ومشيت علي كوبري قصر النيل حبيبي ... الرحلة كانت طويلة وممتعة جدا .. وأنا كنت مشرقة ومتألقة جدا ...

أنا بحب المشي لوحدي , بس في اليوم دة كنت حاسة إني مش لوحدي , وكنت مبسوطة جدا .. كنت بسمع أغاني حلوة , بس كانت مسيطرة عليا أوي  إيديا في جيوبي وقلبي طرب

سارح في غربة بس مش مغترب

وحدي لكن ونسان وماشي كدة

ببتعد معرفش أو بقترب*

* رباعية لصلاح جاهين غناها محمد منير

كان نفسي أعمل ذكريات جديدة أحلي وأسعد من القديمة , حتي لوماقدرتش أنسي القديم ... أصلي هنسي في أد ايه ؟؟ أيام؟ أسابيع ؟ شهور؟ سنين ؟؟؟ طيب وهي الذكريات دي اتعملت في سنين علشان أنساها في سنين ؟ طيب وهو العمر فيه كام سنة علشان أضيع شوية منهم في النسيان ؟؟؟


مشيت علي كورنيش المعادي وأنا فرحانة أوي , ودي أول حاجة اتغيرت جوايا , حزني الكبير فجأة اتبدل بسعادة كبيرة ... قلت الحمدلله إن الكورنيش لسة ما اتباعش .. والله مش عارفة من غيره كنت عملت إيه.. والحمدلله إننا برغم كل شيء قادرين نشم نسايم الأمل ونحلم بالحب ... شكرا يا وطن إنك لسة سايب ع الرصيف مساحة لسة ما اتباعتش أقدر أمشي عليها في البرد واتدفي بالدرة المشوي وحمص الشام وحب الناس ... برغم كل شيء أيامنا فيها شيء بيعشق الحياة ...

حاجة تانية اتغيرت جوايا .. الحب اللي عندي فجأة بقي حب من نوع تاني .. حب لكل حاجة حواليا .. لكل مخلوقات ربنا , بالذمة مش كدة أحسن ؟؟ كنت حاسة إني بحب الناس أوي , وكمان كنت متأكدة من إن الناس بتحبني أوي , كان باين في عينيهم أوي زي ما كان باين في عينيا .. أصل العيون دايما صادقة ما بتكدبش , حتي عيون الناس الكدابين ما بتكدبش .. علشان دايما العيون موصلة ع القلوب , ومفيش قلوب بتكدب .....

أتاري الدنيا نفسها طلعت حلوة , الحياة حلوة من غير حاجة بس إحنا لما بنشوف حلاوتها بنفكر إن الشباك اللي طلينا عليها منه هو اللي حلو , مش هي اللي حلوة , ولو الشباك دة اتقفل بنفكر إن الدنيا ضلمت مع إنها بتكون لسة منورة برة ...


فندق جراند حياة .. مكان كنت كل ما أعدي عليه اتكسف من نفسي أوي , يااه ع الذكريات دي , بتلزق في الدماغ لزقة .. بس اليوم دة كنت علي العكس تماما , فخورة بنفسي أوي .. كانوا عمال الفندق معتصمين , وقفت وسطهم ولسة الأغاني شغالة في ودني , وقعدت اقرا لافتات الاعتصام وكلهم حيوني بالابتسام والكلام كمان , وواحد فيهم قاللي إنتي جميلة أوي .. كنت فرحانة أوي , وحاسة إني فراشة بتطير .. يااه , كلمة اتقالتلي كتير , بس دلوقتي بس حسيتها لما لقيت قلبي بيرفرف بجناحات فراشة , أكيد كل ما هعدي من المكان دة مش هفتكر غير إني فراشة ...

وقفت ع الكورنيش , عند المكان اللي اتقالتلي فيه أجمل كلمة بحبك , بصيت للشمس برده , بس المرة دي كان شروق مش غروب , وأنا طول عمري بحب الشروق أكتر , بشوف فيه الشمس بتتولد وبتفتح عينيها كل يوم وكأنها أول مرة تفتحها , بشوف فيه كل آمالي وأحلامي , بحس تحت الشمس إني طفلة بجد ...

بصيت للنيل, هو كمان كان مبسوط المرة دي أكتر , الشمس الرة دي كانت يدوب مدفياه مش محرراه زي المرة اللي فاتت ..

رجعت تاني وأنا سعيدة بغني في الشارع وببتسم , والناس بتضحكلي أو بتضحك عليا مش مهم , المهم إني حسيت وقتها إني مولودة من جديد ...

وقفت علي كوبري قصر النيل حوالي ساعة ونص مستنية تليفون من هدير صاحبتي كنت هقابلها في الدقي – في مكتبة مصر العامة – مبارك سابقا – وقفت ع الكوبري الوقت دة كله , رافعة رجليا الاتنين علي أول درجة من درجات السور , وماسكة بايديا فيه وفاردة دراعاتي علي الآخر ومرجعة ضهري لورا وببص ع النيل بعيوني اللي كانوا واسعين أوي في اليوم دة , وكنت حاسة إني شايفة بيهمالكون كله .. الدنيا كانت براح أوي , منير صوته جميل أوي , وإحساسه عالي أوي .. رجعلي ثقتي في نفسي وفي كل حاجة .. الهوا مش ممكن كان هيطيرني بجد , والشمس دافية أوي , ودفاها واصل لقلبي , وكنت حاسة الهوا بيخترقني وياخد كل همومي معاه وهو خارج ويرميها في النيل , وأنا مش قادرة أحس غير بروعة المشهد , وجمال صوت منير , وروعة كلمات أغاني بلاك تيما وحمزة نمرة .. فضلت أشع لفترة طويلة , لحد ما بقيت حاسة إن أنا والنيل حاجة واحدة , بس حاجة حلوة أوي ... اكتشفت أول اكتشاف علمي ليا .. درجة انصهار حزني بتساوي حرارة الشمس ناقص برودة النيل في فصل الشتا ...

فضل المشهد دة مدة طويلة لدرجة إن الناس فكرتني عاوزة أنتحر بس خايفة ووراحد مصري جدع عرض عليا يساعدني بدفعة قوية توقعني في النيل بسرعة ومن غير ما أحس ...

والحق يتقال , صوت الأغاني العالي مش بس خلاني ما اسمعش لتوسلات حزني اللي بيغرق في النيل , لكنه كمان خلاني ما اسمعش الناس اللي كانت مشبعاني تريقة ...


قابلت هدير واتمشينا بلا هوية وإحنا عارفيين إن عمرنا ما هنتوه , لحد ما لقينا نفسنا عند مشتل مركز شباب الجزيرة , دخلنا اشترينا زهرتين , ودي كانت أول مرة لينا إحنا الاتنين نعتني بأزهار .. اتصورنا بعدها مع كلاب الحراسة الضخمة بتاعة المشتل .. كان شكلهم مرعب في الحقيقة وهدير كانت خايفة موت , بس أنا كنت أجرأ شوية .. بس الحلو إن هدير كانت أول مرة في حياتها – وأظن الأخيرة – تلمس كلب ...

اتصاحبنا علي الكلاب , وعلي الناس بتوع المشتل , وعلي الورود نفسها اللي فيه , وقررنا احنا الاتنين اننا نيجي المكان دة كتير ...

خرجنا من المشتل متجهين لساقية الصاوي , وفرحانين أوي بالزهور , وكل واحدة فينا حاضنة زهرتها أوي , وجواها فرحة تانية غير اللي علي وشها , فرحة إنها بقي ليها ونيس في البيت , فرحة إنها أول مرة تعتني بزهرة بنفسها , وإنها مسئولة عن روح تهتم بيها وتراعيها وتكبرها .. الأمومة دي أعظم حاجة خلقها ربنا ...  وأنا شخصيا كنت فرحانة بيها أكتر لأن هدير هي اللي جايباهال , وأنا بموت في كل حاجة هدير بتجيبهالي ...

مشينا لحد الساقية في شوارع عمر ما حد فينا مشي فيها قبل كدة , اشترينا ورد من محل زهور في الزمالك , وبعدها دخلنا الساقية , علي النيل عدل , واتصورت مع أحد أصدقائي القطط اللي هناك , اللي بيحبوني وبحبهم , وبيحبوا يناموا علي رجلي وفي حضني بالساعات ...

عاكسنا البط في النيل , وعاكسنا النيل نفسه , وفضلنا قاعدين نسمع في أغاني , ونحكي ونضحك وناكل لب ونعاكس في الشمس لحد ما اتكسفت مننا وروحت , وروحنا احنا كمان , وكل ماحدة فينا حاسة إنه كان يوم جميل خارق للعادة , وقررنا نكرره لأن لسة في حاجات كتير ما عملنهاش آيس كريم العبد , ومكتبة ديوان ونادي التجديف وحاجات تانية كتير ... ودعنا بعض وأنا حاسة إني بجد لسة مولودة علي فطرتي , بحب ربنا أوي , وبحب الناس والدنيا ...

لما وصلت البيت فرجت أهلي علي الزهرة , وجبت مسمار كبير وحفرت بيه علي فخار الأصيص ...

أول خطوة

Roufa Loves Diro

الأربعاء  16/3/2011

حنك السبع*

لذكري يوم جميل في حياتي

لذكري أول زهرة في حياتي

لذكري أول كلب تمسكه هدير العصفورة الرقيقة اللي مش بتبطل زقزقة ...

 

* نوع الزهرة


فات الأوان

       لم يعد له منها سوي فستان أحمر يفوح بعطرها المميز , كانت ترتديه قبل الرحيل علها تلفت نظره إلي جمالها ...
لم يعد باستطاعته الآن سوي أن يحتضن الفستان كل ليلة ويبكي , علها تغفر له إهماله وقصر نظره ...

المدفأة

          الحياة خطي .. زحام .. زحام .. أصوات .. مشاجرات .. أفكار تولد وأخري تموت .. أشياء كثيرة لا تجد الوقت الكافي لكي تخرج الي الحياة , لكن الحياة لا تتوقف أبدا ... ضجيج .. صخب عارم .. يتبعه هدوء .. هدوء .. هدوء ممل .. مثقل .. معبأ بالكثير , ولكنها علي كل تسير ...

دائما ثمة شخص يقف لها من بعيد , لا تراه .. بالطبع لا تراه , وأين يمكن أن تراه ؟؟ ولكنها علي كل حال تشعر به ...

في أجمل لحظات الحب .. في قمة سعادتها .. وفي أقصي لحظات الحزن أو الجنون , دائما يقف لديها بلا مبرر .. أين تحديدا ؟ لا تعلم ,, ربما في خيالاتها , أو بالأدق في ذاكرتها السحيقة .. لا تدري .. لكنه يقف دائما في مكان ما بين جنبات نفسها , تماما حيث تنبع حالة عدم الرضا المتوطنة في نفسها ....

..................................................................................................................

            قرابة العقدين كانت قد مضت علي آخر مرة يراها وتراه , حينما قابلته مجددا , كان قد عاد من سفره أخيرا ودعاه أحد الأصدقاء لحضور ذلك الحفل ...

كانا في حفل زفاف صديقهما القديم الذي لطالما عشق حياة العذوبية , ولكنه الآن وقع في شباك امرأة ساحرة , ناضجة , في بداية الثلاثينيات , فقرر أخيرا الزواج ... وكانت هي قد دخلت الحفل بابتسامة عريضة علي شفتيها , متأبطة ذراع زوجها الذي لم يكن يحب ذلك الجو كثيرا , ولكنه يتقبله – فقط – من أجلها ...وما أن رأته حتي غابت الابتسامة عن وجهها الصبوح , وانسلت يدها من يد زوجها – من غير قصد ..

لم يكس ملامحها الحزن , ولكنها الدهشة .. المفاجأة .. وربما الحنين لماض بعيد , لا أحد يعلم عنه شيء ... هل بعد كل تلك السنوات ؟؟؟

عندما رآها علت وجهه ابتسامة كبيرة جدا , ورائعة جدا , وبرغم مضي كل تلك السنوات , وبرغم تغير شكلها , وحجمها , وهيئتها , الا أن عيناه – كما اعتادت – لم تخطئاها ...

قطع المسافة بينهما في خطوات معدودات , واقترب منها في سرعة ولهفة , صافحها بحرارة متشوق جدا , وبوداعة من لم يبكيها يوما ...

نظراته اليها عندما رآها كانت كافية جدا لكي تعيدها عشرون عاما الي الخلف , استعادت نفس ابتسامتها القديمة , ونظراتها القديمة ,  البراءة والخجل , حضورها وحبورها , وروحها الطفلة , استعادت رعونتها واندفاعها , وجددت شبابها .. بل استعادت أيام صباها الأولي ...

تلامست الأيادي بعد طول فراق .. كانت يدها قد عادت تلك اليد الصغيرة المرتبكة , بينما يده مازالت نفس اليد الدافئة والواثقة , لم تتغير .. وفي لحظات عادت الأيام من جديد .. شريط ذكريات طويل يمر في رأسها سريعا , ولا تدري من أعطي له أمر التشغيل ...

بنفس الارتباك تركت يده عندما ارتخت قبضته علي يدها , ولم تنتبه له حينما صافح زوجها بحرارة صديق , وبالكثير بللا مبالاة ...

ولم تنتبه أيضا الا حينما هجم عليهم فريقا من الأصدقاء ليرحبوا بها وبزوجها , وليأخذوا صديقهم معهم كي يشبعوا منه ...

كان حفل الزفاف جميلا , هادئا , متناسقا جدا , فالعروس جميلة رقيقة , والعريس رزين متزن , والموسيقي ناعمة , والراقصون حالمون , والابتسامات تعلو الوجوه والأرواح , ولكنها – وبرغم كل ذلك من أشياء تحبها جدا – لم تكن معهم ... كانت في مكان غير المكان , وزمان غير الزمان ...

            سار كل شيء في هذه الليلة علي ما يرام , ولكنها – وان لم يسر هكذا – لم تكن لتنتبه ... انها لم تنتبه حتي للأصدقاء اللذين أتوا ليجلسوا معها علي الطاولة ... كل ذلك ولم تنزل عينا زوجها العاشق عن عينيها المشدوهتين , وابتسامتها البلهاء , ورأسها المزدحم , ولكنها – أيضا – لم تنتبه ..

انتهي الحفل دون أن تدري , ودعت الأصدقاء بمصافحات , وقبلات , وتمنيات كثيرة بالأفراح , ودعابات , لم تذكر منها شيئا بالطبع ...

           بحثت عيناها عنه في كل مكان ولكنها لم تجده .. تباطئت خطواتها في الخروج الي جانب زوجها علي أمل أن تراه عائدا مما حيث هو موجود .. ولكنها في النهاية اضطرت للخروج ...

فتح لها زوجها الرقيق باب السيارة , أركبها , وبينما هو يستدير ليركب من الناحية الأخري لمحته .. كان مع صديق آخر وزوجته في الخارج ...

أحست بانقباضة في بطنها لا معني لها , ولكن حيائها من زوجها منعها من ان تبدي أنها تريد توديعه .. أدار زوجها السيارة , ورغما عنها أدارت وجهها عنه ملتفتة للطريق أمامها , وغير ملتفتة لزوجها الطيب الي جوارها , والذي تعلقت عيناه بين الطريق أمامه , وبين وجه زوجته الحبيبة , وملامحها التائهة ...

               وصلا الي البيت وطوال الطريق لم تنطق بكلمة , حاول مرارا أن يجتذب منها أطرافا للحديث , لكن لا جدوي ... شعر بالحرج  , ولم تشعر هي بأي شيء ... دخلت حجرة الأولاد واطمأنت علي نومهم , ثم دخلت غرفتها وبدلت ثيابها دون النطق ببنت شفة ...

قامت بعدها في هدوء ودخلت حجرة المكتب - التي تذاكر وتعمل بها هي وزوجها – وأحكمت اغلاق بابها عليها ... فتحت درج المكتب الي يمينها , وأخرجت أحد الدفاتر التي اعتادت ان تحتفظ بهم , ولا تكتب فيهم أبدا , فقط تقتنيهم وتحفظهم ,.. ربما لجمال شكلهم ونوعية الورق , أو ربما لأنها لم تجد يوما ما تكتبه فيهم , لا بأس .. ولكنها الآن – علي كل حال – قد وجدت ما يستحق أن يكتب فيهم ...

فتحت الدفتر وبدأت تسعيد ذاكرتها ببطء شديد , تتأمل الأيام مبتسمة ’ وبدأت تكتب ....

" كان جميلا ان أراك اليوم , سعدت كثيرا برؤيتك , برغم أننا لم نتحدث ... أتعلم ... أنت لم تتغير كثيرا , فقط زاد وزنك قليلا , وتغيرت طريقة لبسك , ونوعية ثيابك بعض الشيء ,  ربما الغربة ... لكن علي كل حال هذا ليس مهما , الأشياء المهمة مازالت كما هي .. حرارة يدك , ابتسامتك .. وعيناك .. مازالت عيناك بنفس اللون , والدفء , والحنان , وابتسامتك بنفس الاشراق ......... "

لم يعجبها ما كتبت .. أحست أنه لا يجب عليها أن تكتب عما شعرت به هذه الليلة .. من الأفضل أن تتحدث عن شيء آخر , شيء من الماضي الذي لن تضر معرفته ... طوت الصفحة وراحت تكتب من جديد .....

" سعدت كثيرا لرؤيتك الليلة ... لكني لم أكن أتوقع رؤياك مجددا , ليس بعد كل ذلك الوقت .. أتدري .. مازلت بالنسبة لي ذلك الفتي ذو السابعة عشر عاما الذي رأيته آخر مرة .. عندما قررت الرحيل ... أعلم أنه لم يكن اختيارك , ولم يكن الأمر بارادتك , فقد كنت أصغر من أن تقرر , وكان يجب عليك أن تنصاع وأن تسافر لتكمل دراستك الي جانب والدك .. علي كل حال كانت هي الأهم , دراستك ومستقبلك  ... هل تذكر أيام المدرسة ؟ اللعب .. الأصدقاء , رحلات المدرسة , المقالب التي اعتدنا صنعها بالزملاء والأساتذة ؟؟ هل تذكر نزهاتنا القليلة القصيرة التي اعتدنا اختلاسها من أيامنا بعيدا عن الأصدقاء ؟؟؟ لماذا انقطعت رسائلك لي ؟ هل لأنهم أبلغوك بموعد خطبتي ؟ ولكنك كنت تعلم ما سيحدث من قبل أن تغادر .. أتذكر ذلك اليوم عند تلك الشجرة العتيقة الكبيرة التي كنا نجلس تحتها دوما ونلعب بالحصي , ونتحدث ونضحك بلا وعي ؟ هل تذكرها ؟ هل افتقدتها في سفرك كما افتقدتك هي ؟ لا أدري كيف كانت أيام سفرك , كيف اعتدت علي الغربة ؟ كم افتقدت أصدقاءك ؟ هل افتقدتني ؟؟............... "

ما هذا الذي تكتبه ؟ لا .. لا ينبغي أن يكون هكذا الكلام .. ليس هذا ما يجب أن يقال ... ما سيقال يجب أن يكون أكثر حزما وجدية ...

طوت الصفحة مجددا , دون أن تنظر إليها ثانية , وأعدت صفحة جديدة وراحت تكتب ...

" سعدت كثيرا لرؤيتك الليلة ... في الواقع كانت مفاجأة.. أقصد أنني لم أكن أتوقع رؤياك , مازلت لا أذكر سوي ذلك الصبي ذو التسعة أعوام الذي رأيته أول مرة في المدرسة  .. أتذكر ؟؟ كنت طفلا مرحا وشقيا , مفعم بالنشاط , ومتفجر الطاقات , كنت لطيفا جدا , وكنت دائما تبتاع الحلوي للفتيات واللواتي كانوا يحبونك جدا ... وكان الكثير من الأولاد يغارون منك , ولكننا جميعا كنا نحبك .. كنا جميعا نحب اللعب معك ... وكنت لا تمانع اللعب مع أي مجموعة تطلب منك ذلك .. كنت لطيفا علي كل حال ...

أذكر كثيرا تلك الأيام , عندما كانت جميع الأشياء الجميلة نابعة من القلب .. الفرحة  , اللعب , الضحك , وحتي الدموع , جميعهم كانوا من القلب ... أتعلم .. الحياة الآن أصبحت روتينية جدا , سريعة الإيقاع ولا مجال فيها لأي شيء .. حتي الضحك .. أتصدق أنني أصبحت لا أضحك ؟؟ أيعقل هذا عني ؟؟ربما أصبحت لا أضحك كي لا يظن الناس خطئا أنني سعيدة , وربما أخشي أن أسرف في الضحك فأصبح عاجزة عن إبداء الحزن الذي أصبح جزءا مني .. أو أنني لا أضحك خشية علي ملامح وجهي التي قد تصاب بالتجاعيد من أثر الضحك الذي  ربما أخشي أن أسرف في الضحك فأصبح عاجزة عن إبداء الحزن الذي أصبح جزءا مني .. أو ربما لا أضحك خشية علي ملامح وجهي التي قد تصاب بالتجاعيد من أثر الضحك الذي لم تعتده ... المشاكل الحياتية أصبحت تحاصرنا من كل مكان .. لم يعد لدينا فرصة للتفكير في أنفسنا .. انها الحياة .. المعيشة .. الأولاد .. وأهم شيء الأولاد .. يجب أن ينعموا بحياة كريمة , يجب أن نوفر لهم كل شيء .. ندور وندور في سواقي الحياة من أجلهم , نتعب ونتحمل ولا نشكو من أجلهم , لا نحلم بأي تغيير يمس حياتنا .. فقط .. من أجلهم ...

لقد امتنعت منذ زمن طويل عن التعلق بالأشياء , فذلك – علي ما أظن – ليس من حقي الآن .. أظن أن السعادة لم تكتب لي بعد ...

يقولون أن السعادة دائما أمامنا لكننا لا نراها , أظن أنني استثناء من هذه القاعدة , فقد توقفت منذ زمن عن النظر الي الأمام .. لكنني أتناسي مع الوقت .. الوقت .. أتعلم .. الوقت لا يستطيع اعادة أي شيء كما كان , لا يستطيع اصلاح الحاضر أو تغيير الماضي , فقط قد يساعد علي النسيان , أو بالأحري علي افتعال النسيان , وتقليد النسيان , أو تمثيل النسيان , وهو الأمر الذي اعتدت صنعه طوال السنوات السابقة , أظن أيضا أنني ............................ "

فجأة يفتح باب حجرتها بعد دقتين خفيفتين ...

في تسرع وارتباك تغلق الدفتر ةتفتح أحد الكتب بشكل عشوائي , وتنظر من فوق نظارتها الي وجه زوجها الهاديء , الطيب الملامح .. فتراه مبتسما كعادته , مقبلا عليها ةقد حمل لها علي طبق صغير كوبا من الحليب الدافيء , وفي رفق قال لها وهو يغلق الكتاب : " لقد سهرتي كثيرا الليلة ولابد من الراحة "

ردت : " حسبتك نمت "

فيقول  لها بحنانه المعتاد : " ومنذ متي يا صغيرتي أنام دون أن أطمئن علي علي أنكي تنعمين بدفء وتستمتعين بأحلامك , تماما كأطفالنا ؟ "

نظر الي المكتب فوجد الدفتر الذي لم يرها تكتب فيه من قبل .. فقال لها بابتسامة محببة : " من الواضح أن هذا الكتاب مهما جدا , لتنقلي بعضا منه في هذا الدفتر العزيز الذي لم تكتبي فيه يوما " ...

ثم أسند جانبه الي طرف المكتب , وغمز لها باحدي عينيه , وقال لها مداعبا : " أتعلمين يا صغيرتي ماذا كتبت بدقتري الذي يشبهه ؟ كتبت أشعارا وقصائد من أجلك فقط " , وأضاف بابتسامة : " وخشيت أن أريكي اياهم فتحزني من أجل اهداري للدفتر بكتابتي فيه " ... ثم عاد لجديته قائلا : "هيا اشربي الحليب وانهضي للنوم في هدوء " ...

بابتسامة خجولة وأعين دامعة قالت له : " هل من الممكن أن تتركني قليلا ؟ سأكتب سطري الأخير , وآتي خلفك مباشرة ..."

في رفق ربت علي وجهها بكفه الأيمن , وبكفه الأيسر مسح علي شعرها , وقال لها في حنان بالغ معتاد ... " حسنا " ...

خرج وأغلق الباب خلفه في هدوء , وأعادت هي الكتاب لموضعه ثم أعادت قتح الدفتر من جديد , وقلبت صفحاته سريعا , طوت الصفحات مرة أخيرة , وفي صفحة جديدة شرعت تكتب ....

" سعدت كثيرا لرؤيتك الليلة ... انها الليلة التي اكتشفت فيها كم أنا حمقاء ... لقد أدركت أخيرا – والليلة فقط -  أن السعادة بين يدي , وأمامنا دائما .. علينا فقط أن ندع الماضي وننظر للأمام .. وأدركت أيضا أنه لا استثناءات في ذلك " ...

بعينين لامعتين قويتين النظرة , وبيدين ثابتتين , وأصابع واثقة , نزعت الورقات السابقة لذلك ثم مزقتهم الي أنصاف , وأعادت الدفتر الي مكانه الأول ...

وفي ثبات تام , اجتازت الغرفة وخطت نحو المدفأة , وبدون تردد ألقت بهم غير مهتمة .. ثم أطفأت نور الحجرة , وأغلقت الباب ورائها حاملة في يدها كوب الحليب , وفي قلبها الحب الكبير ...